Follow along with the video below to see how to install our site as a web app on your home screen.
ملاحظة: This feature may not be available in some browsers.
أعضاء ملتقى الشعراء الذين لا يمكنهم تسجيل الدخول او لا يمكنهم تذكر كلمة المرور الخاصة بهم يمكنهم التواصل معنا من خلال خاصية اتصل بنا الموجودة في أسفل الملتقى، وتقديم ما يثبت لاستعادة كلمة المرور.
أعزائي الاعضاء، هذه أول قصة كتبتها، ودّت ان أشارك بها في هذا المنتدي ..
وأليكم أول جزء ..
بسمة تعالى
(طارق ومفارق الحياة)
الإهداء..
إلى المربيين العزيزين ..
إلى وجودي في الحياة ..
أمي وأبي الحبيبين..
بيداً راجفة يبعد الستار، وهو يسترق النظر من نافذة حجرته المُعتمة، يرنو إلى الشوارع والأزقة من فوق بعيناة الشاحبتين، يُرجع غطاء الستارة إلى مكانها.. فتتلاشى خيوط أشعة الشمس الذهبية من غرفته الحالكة، يتثاقل بخطواته إلى زاويته ويطأطئ برأسه المهموم، عندها تتداعى أفكاره المجنونة وتتشابك فيما بينها، لماذا الدنيا لا تضحك في مسيرة حياته؟!! لماذا كل هذا الحزن القاتل لنفسه الضعيفة؟!! .. الكل يجوب الشوارع فرحا وضاحكا إلا أنا، يرفع رأس الهموم المطرق.. وينظر للطعام بتكسرٍ مُر؛ فشهيته قد لاعت من الطعام بالغُصة الرتيبة، طُرق الباب بنقرات خفيفة، أقعدته من ذهوله، حس فيها بالحنان والدفء.. إنها أمي.. أنا أعرف طرقها الحنون..
- أفتح الباب يا حبيبي طارق..
صوتها الحاني ينثُ كندى المطر الصباحي على قلبه المحموم.. تنتشر الحيوية في أوصاله المُتقطعة.. يقف بسرعة، يهرع لفتح الباب..
- ها قد جئتك بالطعام الذي تحبه، مع عصير التفاح أيضاً.
- طعام.. ؟! لا أريد شيئاً منه؛ أنا شبعان .. أجال بوجهه وبثقل لسانه.
- لا يا حبيبي طارق.. يجب أن تأكل، لا يجوز بأن تفعل لنفسك هكذا.. لقد اختفى وجهك البشوش بابتسامته، وهندوانه مكسور، يجب أن تأكل ولو من أجلي.. لا تغلق الستائر.. الغرفة مظلمة..
رأسه المُنتكس يدل على عدم الاستجابة.
- يجب أن تنسى كل هذا الحزن .. وتبدده من حياتك يا ولدي..
تنفكُ الأفراس من عقالة الصمت الذي يحاول أن يسيطر عليه.. يتذكر ما حل بة بتكرار القساوة.. حينها تسح عيناه الذابلتين بالبكاء..
- ما هذا يا ولدي لا.. لا لم تبرد دموعك ولم تجف.. حزنك باقٍ وجروحك لم تندمل ..
يباغتهم في هذه اللحظة زوج أمه.. ينظر له بوجهٍ مُكفهر نشِز..
- أما زلت ميتاً هنا في حجرتك.. هيا قم وتحرك.. واترك عنك هذا الهراء..
لا يجيبه أبدا، يتركه يغلي من الغضب ويعربد.. ولكنه لا يكترث لما يقوله..
بكلمات القاسية الفظة يوجهها لأمه..
- هيا رتبي لنا مائدة الطعام.. لقد زاد جوعي.. كما لدي أعمال مهمة بعد الغداء يجب علي إنجازها..
مازالت تمسّد شعر ولدها طارق وعيناها غارقة بالدموع، لما آل إليه الحال..
- حسناً، حسناً (وهي تمسح دموعها)..
تغلق الباب بهدوء وبحب وبحسرة.. للأمهات قلب كبير مليء بالعطف والحنانية، مشاعر الكون كلها لا تماثله ولو بقطرة من بحر حبها قلبها.. يوصد الباب بإحكام لكي لا يأتي هذا المجنون مرة ثانية، يستدير لغرفته ولأثاثه المُبعثر هنا وهناك.. يرفع هامته لسقف الحجرة.. تمر في مخيلته صور الذكريات.. مازالت الدمعة واقفة على جفنه المتعب.. آه أين أنتي يا "طفوف" .. لقد ضاع العمر من بعدك، ورحيلك عني أفقدني توازني بالحياة؛ التي أختلط العث بالسمين فيها.. رباه ساعدني على محنتي هذه..
يرتمي فوق سريره ويتكوم بنفسه.. مكوناً شرنقة أحزان مصبوغة بألوان العذاب لقلبه الواهن.
مساء الخير. كما وعدتكم الجزء الثاني من القصة .. وأعتذر على التأخير ..
كل شيء تبدد، هو يكلمها دائماً بهذه الطريقة الجافية، يعاملها وكأنها خادمة لا أكثر.. تطبخ له وترتب ثيابه، وتقوم بباقي الواجبات المنزلية، دائماً تحاول جاهدة أن تكون مثالية في جميع ما تقدم له وما تصنعه.. ولكن عبثاً لا يكترث.. تزوجها ليعذبها شر تعذيب مع عيشته المريرة، تزوجها بعدما أوهمها بأنه الزوج والأب لأبنها الوحيد، كانت محتاجة لهذا الزوج من الناحية المادية والعاطفية؛ بعدما ترك زوجها فراغاً لا يسد في ظل ظروف هذه الحياة القاسية، بعد الزواج أتضح أنه شخص آخر ومختلف تماماً.. أين الكلام المعسول؟! أين ورعه واتزانه؟! تكثر المشاحنات فيما بينهما في الآونة الأخيرة.. تبعد المسافة أكثر فأكثر.. فصارا لا يقبلان أو يجلسان على مائدة الطعام إلا قليلاً، ولا يتكلمان مع بعضهما إلا في حاجة الضرورة، ولكن أي كلام هذا، بالصراخ ومقابلة الوجوه النافرة ببغض؟!
أما طارق .. فمازال هو طارق، يستيقظ من نومه المرهق، المصحوب بالأرق ليلاً على أصوات شجار بين أمه وأبيه (زوج أمه)، وقف خلف الباب يحاول أن يصوخ السمع الذي ينخفض ويرتفع بتفاوت مجنون.. يحاول أن يفهم الحوار المدار والساخن الذي تحول إلى شجار بعد برهة من سماعة صوت أمه المرتفع، بأنه كان برفقة امرأة ثانية في وقت متأخر.. دار الشجار المحموم ولم يسمع طارق إلا بعض التكسير وإغلاق الباب بقوة عنيفة، ثم تلا ذلك بكاء أمه المرير.. يفتح الباب ويركض للصالة، ويساعد أمه على النهوض، يكفكف أدمعها الساخنة..
- كفى يا أمي، كفى.. لقد رحل هذا المجنون وانتهى الأمر..
- أعرف ذلك .. ويا للبخت اللعين، لقد هددني بالطلاق .. وتعود لذرف الدموع..
صوتها المختنق بالعبرة الساكبة يقطع قلب طارق.. يحنو إليها، ويحضنها بالمواساة..
- أماه لا تبكي ثانية، دموعك المتساقطة تتعبني وترهق أعصابي.. بالله عليك من يريد ان يرجّع هذا المتغطرس لحياتنا؟! فليذهب إلى الجحيم..
عيناها أغرورقتا بالدموع، تسبح في بحر هائج والمياه أحاطت بها من كل الجوانب، تصفعها الأمواج المُتلاطمة بالسواد المحتوم.. (فدوام الحال من المحال).. امة تائهة هذه اللحظة بين ولدها الذي فقد خطيبته، وبين زوجها الذي لا يقدر الحياة الزوجية المقدسة، ترنو إليه بنظرات حائرة في وسط زحام الأحداث الحامية الضائعة.. يمسك يدها ويقبلها.. يوعدها بأنه سيكون الابن البار، وسيعمل على إيجاد وظيفة له في أسرع وقت ممكن، ليدرك حالتهما الضعيفة.. بينما يترك الزمن مخالبه الصديدية مغروستاً في حياتهما المعتمة، ليزداد التيه والمعاناة في وسط تيارات الحياة.
أشكركم أخواني وخواتي على المتابعة، وهذا يدل على الروح الاخوية
ولكم الجزء الثالث..
في تمام الساعة الثانية عشرة ليلاً، يفيق بتململٍ روتيني، يشعر بالضيق ساعة استيقاظه من نومه المرير، ينهض من فراشه.. ويتثاقل بخطواته إلى الحمام لغسل وجهه، يحدق في المرآة دهش.. هذا أنا؟!! يحك ذقنه ويتفحصه بعدما كبرت لحيته المبعثرة وشعره المنكوش، وكأنه منفي من الدنيا.. وجهه الذابل وعيناه الشاحبتان أضفت على ملامحه حزن دفين وغموض في شخصيته.. ينثل الماء على وجهه الضبابي ويهرول مسرعا لنافذة حجرته ليفتحها بحذر غريب.. كأنه لايريد أن أيراه أحد، يسترق النظر منها.. الشوارع خاليه والهدوء خيم على المكان وعمه بلفات الصمت المتعجرف.. طارت في عقله فكرة الخروج من المنزل.. من هذا السجن المُعدم.. يشد على عزمه للنزول بخطوات هادئة من حجرته العلوية.. يبحث عن حذاء له في وسط الظلام، يجد حذاء مُغبر.. يخرج من البيت بخوفٍ مُحبب، يلتفت يمنتاً ويسرا.. الشارع خالٍ من المارة، يتنفس الصعداء .. آه كم اشتقت لهذه اللحظة - هدوء في الشارع- لكي أختلي مع نفسي الكئيبة.. أسامرها مع النجمات بوميضها الخافت.. ينكس رأسه ويهدأ لهاثه، يخطو في هدوء.. كأنه طيف الشبح الليلي يمرق في عشق الظلام.. يمشي دون هدف أو قصد .. إلي أين؟ يجاوب نفسه لا أدري؛ ولماذا أدري.. هكذا الدنيا أعيش دون هدف دون طموح دون انتماء.. يرفع رأسه من التفكير المُبهم ليرى السينما أمامه.. يدخلها دون فكر، غائب الوعي تائه.. يأخذ تذكرة من شباك التذاكر، من دون أن يسأل ما هو الفيلم الذي سيعرض، ينظر إليه بائع التذاكر:
- هل أنت بخير يا سيد؟!!
- ها؟!! .. نعم، نعم..
يأخذ التذكرة ويجلس في آخر الصالة عند آخر المقاعد، يسترخي على المقعد.. وضوء الشاشة الذهبية يسطع على وجهه الشاحب، ها قد جاءت الخلجات الحبيسة، وتدور في فكرة مخيلتها الرخامية بتعابيره البريئة، آه.. كم جلسنا هنا في هذه السينما، شاهدنا الكثير والقليل من الأفلام؛ لا أتذكر .. أكلنا هناك على تلك المقاعد، وتسامرنا معا هنا.. تتسرب الذكريات الجميلة لتداهمه، ليلفه الصمت المهيب في داخل نفسه النائحة.. كيف لموتها في سيارة الأجرة المجنونة تلك .. أن تأخذ كُلَ هذا العمر مني.. أن يأخذ روحي الخابية.. عيناه المفتوحتان بنصف حدقتهما ودموعه الباردة، ووجه الغائم .. أربك الفتاة التي بجانبه، ببعد قريب... أستحوذها شعور الفضول لمعرفته، لكنهه، لسبر أغوار روحة الضائعة.. من يكون؟! وعلام هذا الحزن الغريب؟! كأنه خُلق ليكون الحزن ذاته، ليكون اليأس من الحياة ذاته! .. يحملق طارق في الشاشة بعدما انتهى العرض على مشهد كلمة (النهاية).. أبتسم، وجالت في فكرة نهاية حياته.. إنها فعلا النهاية، يبتسم ببرود كسير.. ويفض مقعده الوحيد، يترك الصالة الخاوية بعد خروج جميع المشاهدين منها، ينظر إلى البواب عند المخرج ويخفض رأسه بتحية الوداع.. يتمشى بهدوء على الرصيف، فجأة يشعر بالملاحقة.. كأن أحدا يلاحقه، ينعطف معه مع كل زقاق، يلتفت عنه كلما احتاج ذلك، يلاحقه كظله، توقف عند باب بيته، يلتفت ورائه.. عجباً! لا أحد! .. يجوس في نفسه الشك.. ولكن لا احد .. يدير مفتاح سجنه المظلم، ليحبس أنفاس روحه الضائعة في زمن لايرحم.
هذا هو الجزء الذي وعدتكم به.. كما سأضيف جزء معه بعض ساعة من الزمن..
يرنو طارق إلى السماء، فيرى النجوم كاللؤلؤ المنثور على قماش حريري أسود اللون.. الوميض الخافت.. والسكينة النفسية؛ أجبرته على النظر إلى السماء من نافذته، رسم أحلامه بسرٍ في آخر انتهاء الليل البهيم، ليلج الصباح بألوانه الزاهية.. لتتفتح كل أوردة قبله.. لتتفشى الحياة الحلوة والهانئة في مسيرة حياته، فقد أزفت ساعة رحيل الحزن والكآبة.. يبدأ المؤذن بالأذان.. يالله .. كلمات تبث القوة في قلبه.. تبث الإيمان والتشبث بالحقيقة الخالدة التي لا يشوبها الخطأ، تنساب كلمات الأذان كلحن يدور في الفضاء في غبش الفجر.. ثاب طارق إلى رشده من خلجاته التي تبددت، بجسمه الغض النحيل يقوم للصلاة، داعيا الله أن يحقق كل ما يجول في فكرة المشوش:
- يا الهي أعني على محنتي.. أخرجني من الظالمات إلى النور.. لا إله إلا أنت.. عطفك وحنانيك..
ما أروع أن يلتحم الإنسان مع الحقيقة الخالدة، مع السماء الطاهرة، مع العالم اللامتناهي.. حينها يتمنى أن يذهب مع والدة العزيز، أن يحشره مع الشهداء.. والدة الذي أستشهد في سبيل العلم والاجتهاد في (قم) / إيران، قتل هناك في الحوزة العلمية، عندما داهمه الرصاص هو ورفاقه الطلبة، إضطجرت الدماء وأصبحت الأرض مغطاة باللون الأحمر القاتم، لم ينسى طارق الصور التي نُشرت في الجريدة، مازالت مخيمة في ذاكرته.. يا لهم من حثالة، مجرمين.. فجأة طرى في فكرة العمل الذي وعد أمه بة، تذكر صديقة ماهر.
- نعم ماهر.. هو الذي يمكن أن احصل لديه على عمل.. فبعدما أسبغ الله نعمته عليه، وبفضل جهده وكفاحه، وصل إلى هذا المنصب.. اليوم سأذهب لرؤيته إن شاء الله.. حقا الدنيا عجيبة؛ كل شيء بالعكس.. الكثير في هذا الوطن لديه الشهادة ولكن.. أين الأعمال للمواطنين؟؟ أين الوعود؟؟
أستيقظ من قيلولته الصغيرة، ليتذكر العمل.. يخرج من غرفته بهدوء بعد أن غرق في الوقت.. ينزل وفي نفسه التفاؤل والتوكل على الله، رنت عينا أمه له..
- ولدي!.. صباح الخير..!
- صباح النور يا أحلى أم في الدنيا. (وهو يقبل جبهتها)
- من غير عادتك أن تستيقظ في هذه الساعة؟!
- نعم؛ ولكن اليوم شيء آخر، ألم أوعدك بالعمل الذي تكلمت عنه بالأمس؟
- نعم..
- اليوم سأذهب إلى صديقي ماهر، لبرما أجد عنده وظيفة.
- ماهر؟!!
- نعم يا أمي ماهر.. لقد أنعم الله عليه بشركة تأمين كبيرة ولها سمعتها في البلد.
- وما أدراك يا ولدي؟
- هذا الخبر قرأته من أربعة أشهر، أما الآن فلا أعلم، فلربما كبرت الشركة أيضاً..
- الله يوفقك يا ولدي..
قبّل يد أمه وخرج من البيت مسرعاً، يهرول في الشارع، يتخطى الناس بسرعة وبتفاؤل، ركب التاكسي بعدما أوقفه:
- إلا أين؟
- المنطقة الدبلوماسية .. لو سمحت.
ينظر من خلال زجاج السيارة، أطلق زفرة زمنية متقلبة.. آآه.. تغيرت الشوارع قليلاً، والوجوه دائماً في عجلة وإرباك.. تائهين وسط زخم الحياة، في ظل ظروف هذه الحياة القاسية.. وسط عولمتها.. أنقطع التفكير عندما توقف سائق التاكسي.
- تفضل يا سيد، لقد وصلنا..
- شكرا لك.
يدور بعينه الشوارع والمباني، وفوضى الزحام الخانق.. لا يستطيع تحمل كل هذه الفوضى العارمة، أسرع في خطاه.. يعبر الأرصفة الواسعة بجنون.. أخيراً يصل أمام البناية الكبيرة، يدخلها بتوجس وبخوفٌ من الرفض، يسأل البواب:
- أين ماهر؟ .. أقصد الأستاذ ماهر؟
يجيبه باستحقار: .. تقصد المدير العام ماهر..
- نعم، نعم..
- ولماذا تريد رؤيته؟
- أريد مقابلته، فهل تسمح؟
- حسنا، أتبعني..
أدخله في المصعد، كما يحشر الجلاد الغليظ سجينا بقساوة مكفهرة.. وبعد عدة طوابق، وقف المصعد..
- تفضل يا أخ..
- شكرا..
تضايق طارق من هذا البواب الجاف.. ولكنه تقدم قليلاً، فرأى موظفة الاستقبال، حياها وسألها عن المدير، لكنها اعتذرت منه وقالت:
- المدير ليس موجود حالياً، بالمناسبة هل لديك موعد مسبق؟
- لا.
- حسناً.. بأي خصوص.
- أريد فقط أن أراه.. هو موضوع شخصي.
- هلا أعطيتني أسمك ورقمك لو سمحت؛ ليكون على علم بقدومك..
أعطاها بعض المعلومات ورقم الهاتف.. ودلف.. تعجبت الموظفة من هذا الشخص! هذا هو الشخص الذي رأيته البارحة في صالة العرض (السينما) .. غريبة؟!! ماذا يريد من المدير، وهو رجل شبه مُعدم؟!!
رجع إلى البيت، فتفاجأ عندما رأى وجه أمه الباهت المخطوف بذبول وحزن..
- أماه ما الذي حصل؟! ما أبكاكِ؟؟
مدت الورقة التي تحملها بهدوء إليه، ودموعها بدأت بالسقوط المُر..
- طلقك يا أمي.. ما عساي أن أقول.. الله المعين..
أحتضن أمه بالمواساة، ليمتص عنائها الثقيل من صدرها المتعب.. ليزيح الهم عن نفسها التي بنتها الجروح والهموم.. ليكفكف أدمعها الساكبة بحرارة.. هكذا وضعهما، كٌل يلعق جرح الثاني، ليشرب سم من السموم الزعاف، ليداري بعضهم ببعض بالشكل المعقول، بالسير القهري الحازم، تنطفئ روحهما التي لم تنطفئ..
مساء الخير... أعتذر لطول الغياب.. ولكن دائما على وعدي..
في الهادل المُدلهم، تضطرب أفكاره المشوشة.. يدير مفتاح الراديو الخشبي.. (موعود معايا بالعذاب.. موعود يا قلبي.. موعود ودايما بالجراح موعود يا قلبي.. موعود .. موعود..) يصدح صوت (العندليب الأسمر) في الغرفة المظلمة حتى سمعت الزوايا كل كلمه.. تهتز مشاعره الشجية عندما يخترق صوت المذياع مسامع روحه عبر الأثير الهزيل.. لتحط على كيانه، لتهتز الدمعة المتشنجة بالغُصة المريرة.. بالواقع الذي لا يتبدل.. أين تلك الأيام؟ أين تلك الأحلام؟.. لقد تبددت، أصبحت مثل السراب وريقه الجاف قد توقد من شدة الحرارة، هو ساهرٌ مع النجمات.. يسامرها بأحلى الكلمات.. إلى أن تنفس الصبح وأستيقظت عصافير الصباح النشيطة، ينتهي حينها مُداراته مع النجوم.. تأخذه الذكرى وتعصر قلبه مع كل تنهيدة، يرفع عقيرته بالصوت المخُتنق بالعبرة.. ويشدو مع العندليب الأسمر.. ليسبر غور قلبه بالكلمات التي تشبه رذاذ المطر الصباحي البارد على قلبه المائج بالحمم، الهائج بالآلام، وجروحه التي لن تندمل.
بينما هو كذلك، إذ دخل زوج أمه البيت بعد اقتحامه، وفي يده زجاجة لعينة، قد أثملته حتى النشوة الخبيثة، بعينيه الحمراوتين الجاحظتين يمرق البيت.. لا أحد.. يكترع من الزجاجة بقذارة لا تحتمل، يهيج بطنه مثل إعصار من الحرائق، مثل دبيب النمل يسري في معدته، بينما عينه تشيط حقداً وغضباً.. يتلعثم ويعربد بصوته الأجش برائحته النتنة:
- أين أنتي .. هيا.. أخرجي..
انتبه طارق لصوته، وتذكر حينها وجهه وقذارته التي أوصلت أمة للطلاق، هب مسرعاً يتخطى العتبات بسرعة، فرآه أمامه وفي يده الخمرة.. أمسكه بقوة من ذراعه ورماه إلى الخارج.. ظل المجنون واقفاً يعربد ويتلفظ بالسباب، حتى دلف وهو يترنح بين جدران البيوت.
أثارت الضجة بعض الإزعاج، وخاصة في وقت الصباح الباكر، حيث الهدوء وزقزقة العصافير تمرح في أجواء القرية، استيقظت أمه من جراء هذا اللغط..
- صباح الخير..
- صباح النور أمي..
تشم رائحة الخمر النتن..
- ما هذه الرائحة؟!
- هشام جاء إلى هنا.. ومعه "زجاجته" المفضلة كما تعلمين.. فأخرجته.. ولكن رائحته النتنة ما زالت قابعة في المكان.. هذا مجنون لحد النخاع..
- إنا لله وإنا إليه راجعون.. ما هذا الصباح؟!!
أمسك يد أمه..
- تعالي يا أمي الحبيبة.. اليوم أنا سأعد الإفطار.. ولكن تحت إشرافك طبعاً..
تعرف انه يحاول تهدئتها وينشر السعادة التي كان والدة غامر البيت بها.. ابتسمت وقالت له:
- لا يكفي.. لقد شبعت منذ الآن.. (مازحة)
ضحكا معاً ودخلا إلى المطبخ، أمه تنظر له بحب بملء عينها، فهذا الولد الوحيد الذي تسند ظهرها بة.. يخفق قلبها كلما رأته يكبر..
يضع البيض في المقلاة، يصنع بعض العصير، نظرت له أمه..
- مازلت تحب عصير التفاح؟
أبتسم وأرجع التفاحتين إلى الثلاجة، ووضع البرتقال في المعصرة بدلا منه..
جهز مائدة الطعام.. وتقابلا عليها، شهية طارق جيدة هذا اليوم، هذه بشرى رائعة لقلب أمه، تناول الفطور، وذهب لصديقة ماهر مرة ثانية، وعندما وصل إلى البواب الفارع الطول، حياه وتقدم لموظفة الاستقبال سألها عن ماهر:
- الأستاذ ماهر موجود؟
- لحضه من فضلك.. اتصلت بة تخبره بوجوده..
أُدخل طارق على وجه السرعة، ولما رآه ماهر، أبتسم وحياه..
- أين أنت يا رجل؟ لم أرك منذ فتره طويلة؟!!
- ماذا أفعل.. هذه الدنيا، ترهق الإنسان وتبعده عن أحبابه وأصدقاءه...
- كيف أحوالك؟؟ .. عفواً.. أعذرني لم أستطع حضور مأتم التعزية، لوفاة خطيبتك.. كنت مشغول جدا، وخاصتاً عند سفري إلى ألمانيا تلك الفترة..
- لا بأس، أنا أقدر ظروفك المهنية.. أنا بخير على كل حال..
- حسناً.. طلبت رؤيتي؟ خيرا؟!
- نعم يا ماهر، لقد ضاقت الحال، بعدما طلق (هشام) أمي..
- حقا؟!! .. طلقها؟! متى؟!!
- نعم طلقها منذ فترة وجيزة.. وضنك الحياة أخنقنا.. فطلبي هو.. هل أجد وظيفة عندك؟؟
سكت هنيهة .. ثم أردف:
- لديك شهادة جامعية أليس كذلك؟؟ دبلوم؟؟
- نعم.. دبلوم..
- ماذا أقول لك؟ .. حسنا لا بأس، سأتدبر الأمر، ولو بالدبلوم.. ثم غمز بعينه ضاحكاً؛ فابتسم طارق..
- نعم يا طارق أبتسم.. لا تنطفئ فيك روح الفرح والشباب، المهم أن تكون مرتاح نفسياًَ.
تجاذبا أطراف الحديث عن أمور الدنيا ومشاغلها... ثم رحل.. بعدما أعطاه مهلة ثلاثة أيام، ليحصل على عمل له.. وهو في طريقة أخذ يفكر في طريقة كلام ماهر.. لقد أصبحت دبلوماسية كثيرا.. وكأنني أتيت لأعقد صفقة معه أو ما شابه.. يا مغير الأحوال..!!