اليوم الآخر
شاعر وقلم مميز
[align=center]بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
اللهم صل وسلم على محمد وآل محمد
أذا حاولنا استنطاق كتاب السير والتاريخ عن حياة كميل بن زياد قبل أتصاله بلإمام علي
عليه السّلام لَحارتْ جواباً !..
فنحن لا نعرف سوى أنه ابن زياد النخعيِّ, أمَّا عن طفولته و صباه فلا شيء يُذكَر. كانت عائلته تقطن اليمن, و بعد امتداد الإسلام هاجرت إلى الكوفة و اتخذتها سُكناها و موطنَها. وفي عهد الإمام عليٍّ عليه السّلام أشرق نجم كميل, و سطع نوره, فهو من التابعين الذين لم يُدرِكوا النبيَّ صلّى الله عليه وآله وسلم, حتى أن التاريخ لا يأتي على ذِكْره خلال الحكم قبل الإمام عليّ عليه السّلام.
و ممّا لا شك فيه بأن قرب كُمَيل بن زياد من الإمام علي في معظم الأوقات جعله من مشاهير حواريّي الإمام عليه السّلام.
و كان أميرالمؤمنين يُفضي إلى صاحبه هذا, الملازم له, و الدائر في فلكه, بما في نفسه من شؤون و شجون, و بما تضطرم به جوانحه. وليس كلُّ ما يُعلم يُقال!...
ولكن لكُمَيل في نفس الإمام منزلةً خاصة, وقد ظهرت في مناسبات ثلاث:
المناسبة الأولى:
ها هو ذا كُمَيل بن زياد, وقد أخذ الإمام علي عليه السّلام بيده إلى خارج الكوفة, في طريقهما إلى الجبّان, فمهامّ الإمام أبي الأئمة قلّما تَدَع له مُتّسعاً من الوقت كي يختلي فيه بمَن اصطفى من الرجال الخُلّص, الأوفياء!..
ويسرح ناظراه الكريمان في الأفق اللاّمتناهي الذي يمتّد أمامه دون حدود, ويمتدّ بفكره الثاقب الي عوالم الملكوت الأعلى, وقد لاحت معالم الجبّانِ أمامه... لقد ضاق ذرعاً بهذا الخلق الذين حوله .. إنهم ـ لِضيق أُفقهم ـ لم يفهموه حقّ الفهم, فَهُم طلاّب بهرج الحياة وزخرفها, يلهثون وراء حطام دنيا لا تُغني عن الاخرة شيئاً, وقد قنعوا منها بالقشور دون الُّلباب!...
وتهبّ نسمة رقيقة, تطمئنّ إليها النفس وترتاح. فيعبّ من ريّاها مِلْءَ صدره الشريف, ثم يلتفت إلى صاحبه كميل, و يتنفّس الصُّعَداء, وكأنّه يزيح عن صدره جبلاً من الهمّ المقيم, وُيتبْع التنفس بآهةٍ حرّى ممّا يلاقي من أهل زمنه, زمن الكفران والبهتان.. إنها لفرصة سانحة يبثّ فيها إلى صاحبه الوفيّ ما بقلبه العظيم العظيم!...
ـ « يا كُمَيل بن زياد، إن هذه القلوب أوعيةً, فخيرُها أوعاها, فاحفَظْ عنّي ما أقول:
الناس ثلاثة: فعالِمٌ ربّاني, و متعلّم على سبيل نجاة, وهمجٌ رَعاع أتباعُ كل ناعق, يميلون مع كلّ ريح ,لم يستضيئوا بنور العلم, ولم يلجأوا إلى ركن وثيق فيَنجوا !...
يا كميل: العلم خيرٌ من المال, العلم يحرسك و أنت تحرس المال, المال تنقصه النفقة, و العلم يزكو على الإنفاق, وصنيع المال يزول بزواله.
يا كُمَيل بن زياد، معرفة العلم دِين يُدان به. به يكسب الإنسانُ الطاعةَ في حياته, وجميلً الأحدوثة بعد وفاته. والعلم حاكم, والمال محكوم عليه!...
يا كميل!.. هَلَك خزّان الأموال وهم أحياء، والعلماء باقون ما بقيَ الدهر!.. أعيانُهم مفقودة, و أمثالهم في القلوب موجودة..
ها إنّ ها هنا ( وأشار إلى صدره الشريف ) لَعِلماً جَمّاً, لو أصبتُ له حَمَلةً!
بل أصبتُ لَقِناً غيرَ مأمون عليه, مستعملاً آلةَ الدِّين للدنيا, ومُستظهِراً بنِعَم الله على عباده, وبحُججِه على أوليائه, أو منقاداً لحَمَلة الحقّ لا بصيرةَ له في أحنائِه, ينقدح الشكُّ في قلبه لأولِ عارضٍ من شُبهةٍ !..
ألا, لاذا, ولا ذاك!.. أو منهوماً باللذة, سَلِسَ القياد للشهوة، أو مُغرَماً بالجمع والادّخار, ليسا من رُعاة الدِّين في شيء, أقربُ شيء شَبَهاً بهما الأنعامُ السائمة, كذلك يموت العلم بموتِ حامليه.
اللهمّ بلى، لا تخلو الأرض من قائم لله بحُجّةٍ: إمّا ظاهراً مشهوراً, و إمّا خائفاً مغموراً, لئلاّ تبطُلَ حجج الله وبيّناته! و كم ذا ؟ وأين أولئك ؟
أولئك ـ و اللهِ ـ الأقلّون عدداً, والأعظمون عند الله قَدْراً, يحفظ الله بهم حُججَه وبيّناتِه, حتي يودعوها نظراءَ هم، ويزرعوها في قلوب أشباههم. هجم بهم العلمُ على حقيقة البصيرة, وباشروا روح اليقين, واستلانوا ما استَوْعَره المترفون, وأنِسوا بما استوحش منه الجاهلون, وصحبوا الدّنيا بأبدانٍ أرواحَها معلّقة بالمحلِّ الأعلى!
أولئك خلفاءُ الله في أرضه, والدعاة إلى دينه, آهٍ آهٍ شوقاً إلى رؤيتهم!.. انصرِفْ يا كُمَيل إذا شئت! ».
إننا, في هذه الكمة البليغة, أمام موضوعٍ من أخطر المواضيع: العلم و المال!..
فالعلم باقٍ, و كذالك العلماء العلماء!.. والمال زائل بزوال صاحبه, إن لم يكن زائلاً قبله!..
وخُزّان الأموال على كلّ حالٍ زائلون، أمّا العلماء فخالدون!
وأين من يتلقّى عن الإمام علماً لَدُنيّاً ( أي: إلهياً ) جمّاً, يكتنز به صدرُه الشريف؟!
وقد علّمه النبيُّ صلّي الله عليه وآله وسلم ألفَ بابٍ من أبواب العلم, من كل واحدٍ منها يتفرّع ألفُ بابٍ!
وينبّه الإمام عليه السّلام صاحبه كميلاً إلى ما بين العلماء من تفاوت درجاتٍ:
فهناك علماء, العلم بالنسبة إليهم كالوظيفة للموظّف, أو كالبضاعة للتاجر! وسيلةُ كسب, وغاية معاش, وأحياناً حبائل اقناص!.
وهناك علماء ربّانيّون, هم ورثة الأنبياء والرسل والأئمة.. وهم الصفوة والقِلّة, بهم تبقى أرضٌ و سماء!...
* المناسبة الثانية:
لنستمع إلى كُمَيل بن زياد, يحدّثنا في موضوعٍ مهمّ, وفي بابٍ من أبواب أدب النفس: إنّه الدعاء! وللدّعاء في حياة أهل البيت عليهم السّلام سهم كبير, وحظٌ عظيم...
فهو يربطهم بالله تعالى بوثيق الروابط, ويَصِلهم به بمتين الصِّلات!.
يقول كُمَيل رضوان الله عليه:
كنت جالساً مع مولاي أمير المؤمنين صلوات الله عليه في مسجد البصرة, ومعه جماعة من أصحابه, فقال بعضهم: ما معنى قول الله عزّوجلّ: فيها يُفْرَقُ كلُّ أمْرٍ حَكيم ؟
قال عليه السّلام: هي ليلة النّصف من شعبان, و الّذي نَفْسُ عليٍّ بيده, إنّه ما مِن عبدٍ إلاّ وجميعُ ما يجري عليه من خيرٍ أو شرٍ, مقسومٌ له في ليلة النصف من شعبان, إلى آخر السنة في مثل تلك الليلة المقبلة. وما من عبدٍ يُحييها, ويدعو بدعاء الخضر عليه السّلام إلاّ استُجِيب له.
فلمّا انصرف, طرقْتُه ليلاً.
فقال عليه السّلام: ما جاء بك يا كميل؟!
قلت: يا أمير المؤمنين, دعاء الخضر عليه السّلام.
فقال : اجلس يا كميل!..
إذا حفظت هذا الدعاء, فآدْعُ به كلّ ليلة جمعةٍ, أو في الشهر مرّةً, أو في السنة مرّة، أو في عمرك مرّةً, تُكْفَ, وتُنصَر, وتُرزَق, ولن تَعدِم المغفرة.
يا كُمَيل! أوجَبَ لك طولُ الصحبة لنا, أن نجود لك بما سألتَ.
اكتب!.. ».
وطفق كُمَيل يكتب, وإذا بأيدينا دعاء, ولا كالأدعية!..
إنه دعاء كُمَيل !.. وبذلك عمّ واشتُهِر!.. و تمتلئ به الكتب التي تتناول هذا الجانب من العبادة.
* المناسبة الثالثة:
في جلسةٍ حميمٍة, بين الإمام وتلميذه كُمَيل, يسأل التلميذ النجيب أستاذه العظيم:
- ما النَّفْس يا مولاي؟
والموضوع, لخطورته, أصبح أشْبهَ باللُّغز.
ويلتفت الإمام عليّ عليه السّلام و هو الذي لا يفاجئه السؤال مهما كان, وأينما كان .. من حديث أو خطابٍ, يستوضح من صاحبه كُمَيل: أيَّ نفسٍ ؟!
ويجيب كُمَيل, وقد اعتراه استغراب : وهل هي إلاّ نفسٌ واحدة يا مولاي ؟!
ويلوح طيف ابتسامةٍ نديّةٍ رقيقةٍ, على شفتَى سيد الأوصياء.
ويأخذ بالكلام:
ـ « بل هي أربعة أنفس :
الأولى: النامية, الثانية: الحيوانيّة, الثالثة: الناطقة القدسيّة, الرابعة : الكلّية الإلهية. ولكلٍ منها قوىً خمس, وخاصّتان:
أما قوى الناميةِ النباتيةِ الخمسُ, فهي: الماسكة, الجاذبة, الهاضمة, الدافعة, المربِّية.
وخاصّتاها: الزيادة والنقصان.
وانبعاثُها من الكَبِد.
أمّا قوى الحيوانية الخمس, فهي: السمع, البصر, الشمّ,, الذوق, اللمس.
وخاصّتاها: الرضى و الغضب.
وانبعاثها من القلب.
وأمّا قوى الناطقةِ القدسيةِ الخمس فهي: الفكر, الذِّكر, العلم, العمل, النّباهة.
وخاصّتاها: النزاهة والحكمة.
وليس لها انبعاث, وهي أشبه الأشياء بالنفس الملكية.
وأمّا الكلّية الإلهية فقواها الخمس هي: البقاء في الفَناء, العِزّ في الذُّلّ, الفقر في الغِنى, الصبر في البلاء, النعيم في الشقاء.
وخاصّتاها: الحلم والكرم.
ومنشأها و مبدأها من الله تعالى؛ لقوله عزّوجلّ: ونَفَخْنا فيهِ مِن رُوحِنا و مرجعها إليه؛ لقوله تعالي: يا أيّتُها النَّفْسُ المُطْمئنّةُ اَرْجِعي إلي ربِّكِ راضيةً مَرْضيّةً
والعقل وسط الكلّ, حتي لايتكلّم أحد منكم في غير العقل ».
ويَفْغُر كميل بن زيادٍ فاهُ مدهوشاً, من هذا البحر الجيّاش, الذي لايُدرَك ساحلُه, ولا يُسبَر غَورُه!
وإذ نتأمل هذا الجوابَ المترابطَ الحلقات, قليلاً, يتوضّح لنا أنّ الإمام عليه السّلام لا يخاطب صاحبه كميلاً فحسب, بل توجّه من خلاله لمخاطبة عقول جميع مَن سَبَقه, ومن أتى بعده, من فلاسفةٍ ومتكلّمين!.
وهل بعد هذه المناسبات الثلاث ـ وقد أفاض الإمام فيها بما أفاض ـ يبقى شكّ في المنزلة الرفيعة التي تبوّأها كُمَيل في نفس الإمام عليه السّلام ؟!
وهكذا كان الإمام عليّ عليه السّلام لا يَدَع مناسبةً تمرّ إلاّ وأودع فيها صدر كُمَيل علماً!.. فعندما يُؤتى في حديثٍ بينهما على ذِكْر مكارم الاخلاق, يوصي الإمامُ عليه السّلام كميلاً وصيّتَه الخالدة:
« يا كُمَيل، مُرْ أهلَك أن يروحوا في كسبِ المكارم, ويُدْلِجوا ( أي : يسيروا ليلاً ) في حاجة مَن هو نائم.
فوَ الّذي وَسِع سمعُه الأصوات, ما من أحد أودع قلباً سروراً, إلاّ وخلق اللهُ له من ذلك السرور لطفاً, فإذا نزلت به نائبة جرى إليها كالماء في انحداره, حتى يَطْردَها كما تُطرَد غرائبُ الإبل ... »
إنه الإحسان يدفع البلاء!.
ـ وكيف ذلك؟.
ـ ها قد سبقت الإجابة عن ذلك على لسنان الإمام عليّ عليه السّلام!
كما يوصي الإمامُ عليه السّلام صاحبه بألاّ يُؤخَذَ بالمظاهر, أو يأخذ بها!.
حتى العبادة.. من صلاةٍ و صيامٍ وقراءة قرآنٍ, فهي وعدمها سيّان إن لم تَصدُر عن إيمانٍ صحيحٍ سليم, يرى صاحبُه الحقَّ حقاً فيتّبعَه, والباطلَ باطلاً فيَجتنبَه!..
ويضرب الإمام عليٌّ عليه السّلام لصاحبه كُمَيل مثلاً لا يُنسى مدى الحياة:
بينما كانا معاً يتجوّلان, وإذا بصوتٍ يرتّل قول الله تعالى بخضوع و خشوعٍ, وتهجّدٍ وتعبّد:
أمّنْ هُوَ قانِتٌ آناءَ الليل ساجداً و قائماً يَحْذَرُ الآخرة, ويرجو رحمةَ ربِّه, قُلْ هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون؟!
ويعقّب الإمام بقوله: « نوم على يقينٍ، خيرٌ مِن صلاةٍ في شكّ!..
ويتابعان تَجْوالَهما.. وقد عقدت الدهشةُ لسانَ كُمَيل لِما نطق به سيّدُه من حكمٍ على هذا المتعبِّد في جوف الليل والنّاسُ نيام!
وتمضي شهور, وتدور معركة « النّهروان » بين الخوارج و إمامهم الذي خرجوا عن طاعته.. وتنتهي المعركة كما تنبّأ بنتيجتها الإمام عليه السّلام مُسْبَقاً أمام بعض أصحابه:
« واللهِ لن يُقتَل منكم عشرة, ولن يَفِلتَ منهم ( وهم ألوف ) عشرة!..
ويمضي الإمام عليّ عليه السّلام وصاحبه كُمَيل يتفقّدان جثث الصرعى وقد امتلأت بهم ساحة المعركة.. ويشير الإمام عليه السّلام إلى إحدى هذه الجثث, مُخْبِراً صاحبه كميلاً بأنها جثة صاحب ذلك الصوت الرقيق الحزين الذي كان يتلو القرآن في تلك الليلة التي كانا فيها معاً يتجوّلان.
وتعتري كميلاً قشعريرةٌ في جسده.. وبعد معركة النهروان, تدور معركة صِفِّين...
ويلازم كميلٌ مولاه, يضرب بين يديه بسيفٍ يقطر دماً!..
[/align]
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
اللهم صل وسلم على محمد وآل محمد
أذا حاولنا استنطاق كتاب السير والتاريخ عن حياة كميل بن زياد قبل أتصاله بلإمام علي
عليه السّلام لَحارتْ جواباً !..
فنحن لا نعرف سوى أنه ابن زياد النخعيِّ, أمَّا عن طفولته و صباه فلا شيء يُذكَر. كانت عائلته تقطن اليمن, و بعد امتداد الإسلام هاجرت إلى الكوفة و اتخذتها سُكناها و موطنَها. وفي عهد الإمام عليٍّ عليه السّلام أشرق نجم كميل, و سطع نوره, فهو من التابعين الذين لم يُدرِكوا النبيَّ صلّى الله عليه وآله وسلم, حتى أن التاريخ لا يأتي على ذِكْره خلال الحكم قبل الإمام عليّ عليه السّلام.
و ممّا لا شك فيه بأن قرب كُمَيل بن زياد من الإمام علي في معظم الأوقات جعله من مشاهير حواريّي الإمام عليه السّلام.
و كان أميرالمؤمنين يُفضي إلى صاحبه هذا, الملازم له, و الدائر في فلكه, بما في نفسه من شؤون و شجون, و بما تضطرم به جوانحه. وليس كلُّ ما يُعلم يُقال!...
ولكن لكُمَيل في نفس الإمام منزلةً خاصة, وقد ظهرت في مناسبات ثلاث:
المناسبة الأولى:
ها هو ذا كُمَيل بن زياد, وقد أخذ الإمام علي عليه السّلام بيده إلى خارج الكوفة, في طريقهما إلى الجبّان, فمهامّ الإمام أبي الأئمة قلّما تَدَع له مُتّسعاً من الوقت كي يختلي فيه بمَن اصطفى من الرجال الخُلّص, الأوفياء!..
ويسرح ناظراه الكريمان في الأفق اللاّمتناهي الذي يمتّد أمامه دون حدود, ويمتدّ بفكره الثاقب الي عوالم الملكوت الأعلى, وقد لاحت معالم الجبّانِ أمامه... لقد ضاق ذرعاً بهذا الخلق الذين حوله .. إنهم ـ لِضيق أُفقهم ـ لم يفهموه حقّ الفهم, فَهُم طلاّب بهرج الحياة وزخرفها, يلهثون وراء حطام دنيا لا تُغني عن الاخرة شيئاً, وقد قنعوا منها بالقشور دون الُّلباب!...
وتهبّ نسمة رقيقة, تطمئنّ إليها النفس وترتاح. فيعبّ من ريّاها مِلْءَ صدره الشريف, ثم يلتفت إلى صاحبه كميل, و يتنفّس الصُّعَداء, وكأنّه يزيح عن صدره جبلاً من الهمّ المقيم, وُيتبْع التنفس بآهةٍ حرّى ممّا يلاقي من أهل زمنه, زمن الكفران والبهتان.. إنها لفرصة سانحة يبثّ فيها إلى صاحبه الوفيّ ما بقلبه العظيم العظيم!...
ـ « يا كُمَيل بن زياد، إن هذه القلوب أوعيةً, فخيرُها أوعاها, فاحفَظْ عنّي ما أقول:
الناس ثلاثة: فعالِمٌ ربّاني, و متعلّم على سبيل نجاة, وهمجٌ رَعاع أتباعُ كل ناعق, يميلون مع كلّ ريح ,لم يستضيئوا بنور العلم, ولم يلجأوا إلى ركن وثيق فيَنجوا !...
يا كميل: العلم خيرٌ من المال, العلم يحرسك و أنت تحرس المال, المال تنقصه النفقة, و العلم يزكو على الإنفاق, وصنيع المال يزول بزواله.
يا كُمَيل بن زياد، معرفة العلم دِين يُدان به. به يكسب الإنسانُ الطاعةَ في حياته, وجميلً الأحدوثة بعد وفاته. والعلم حاكم, والمال محكوم عليه!...
يا كميل!.. هَلَك خزّان الأموال وهم أحياء، والعلماء باقون ما بقيَ الدهر!.. أعيانُهم مفقودة, و أمثالهم في القلوب موجودة..
ها إنّ ها هنا ( وأشار إلى صدره الشريف ) لَعِلماً جَمّاً, لو أصبتُ له حَمَلةً!
بل أصبتُ لَقِناً غيرَ مأمون عليه, مستعملاً آلةَ الدِّين للدنيا, ومُستظهِراً بنِعَم الله على عباده, وبحُججِه على أوليائه, أو منقاداً لحَمَلة الحقّ لا بصيرةَ له في أحنائِه, ينقدح الشكُّ في قلبه لأولِ عارضٍ من شُبهةٍ !..
ألا, لاذا, ولا ذاك!.. أو منهوماً باللذة, سَلِسَ القياد للشهوة، أو مُغرَماً بالجمع والادّخار, ليسا من رُعاة الدِّين في شيء, أقربُ شيء شَبَهاً بهما الأنعامُ السائمة, كذلك يموت العلم بموتِ حامليه.
اللهمّ بلى، لا تخلو الأرض من قائم لله بحُجّةٍ: إمّا ظاهراً مشهوراً, و إمّا خائفاً مغموراً, لئلاّ تبطُلَ حجج الله وبيّناته! و كم ذا ؟ وأين أولئك ؟
أولئك ـ و اللهِ ـ الأقلّون عدداً, والأعظمون عند الله قَدْراً, يحفظ الله بهم حُججَه وبيّناتِه, حتي يودعوها نظراءَ هم، ويزرعوها في قلوب أشباههم. هجم بهم العلمُ على حقيقة البصيرة, وباشروا روح اليقين, واستلانوا ما استَوْعَره المترفون, وأنِسوا بما استوحش منه الجاهلون, وصحبوا الدّنيا بأبدانٍ أرواحَها معلّقة بالمحلِّ الأعلى!
أولئك خلفاءُ الله في أرضه, والدعاة إلى دينه, آهٍ آهٍ شوقاً إلى رؤيتهم!.. انصرِفْ يا كُمَيل إذا شئت! ».
إننا, في هذه الكمة البليغة, أمام موضوعٍ من أخطر المواضيع: العلم و المال!..
فالعلم باقٍ, و كذالك العلماء العلماء!.. والمال زائل بزوال صاحبه, إن لم يكن زائلاً قبله!..
وخُزّان الأموال على كلّ حالٍ زائلون، أمّا العلماء فخالدون!
وأين من يتلقّى عن الإمام علماً لَدُنيّاً ( أي: إلهياً ) جمّاً, يكتنز به صدرُه الشريف؟!
وقد علّمه النبيُّ صلّي الله عليه وآله وسلم ألفَ بابٍ من أبواب العلم, من كل واحدٍ منها يتفرّع ألفُ بابٍ!
وينبّه الإمام عليه السّلام صاحبه كميلاً إلى ما بين العلماء من تفاوت درجاتٍ:
فهناك علماء, العلم بالنسبة إليهم كالوظيفة للموظّف, أو كالبضاعة للتاجر! وسيلةُ كسب, وغاية معاش, وأحياناً حبائل اقناص!.
وهناك علماء ربّانيّون, هم ورثة الأنبياء والرسل والأئمة.. وهم الصفوة والقِلّة, بهم تبقى أرضٌ و سماء!...
* المناسبة الثانية:
لنستمع إلى كُمَيل بن زياد, يحدّثنا في موضوعٍ مهمّ, وفي بابٍ من أبواب أدب النفس: إنّه الدعاء! وللدّعاء في حياة أهل البيت عليهم السّلام سهم كبير, وحظٌ عظيم...
فهو يربطهم بالله تعالى بوثيق الروابط, ويَصِلهم به بمتين الصِّلات!.
يقول كُمَيل رضوان الله عليه:
كنت جالساً مع مولاي أمير المؤمنين صلوات الله عليه في مسجد البصرة, ومعه جماعة من أصحابه, فقال بعضهم: ما معنى قول الله عزّوجلّ: فيها يُفْرَقُ كلُّ أمْرٍ حَكيم ؟
قال عليه السّلام: هي ليلة النّصف من شعبان, و الّذي نَفْسُ عليٍّ بيده, إنّه ما مِن عبدٍ إلاّ وجميعُ ما يجري عليه من خيرٍ أو شرٍ, مقسومٌ له في ليلة النصف من شعبان, إلى آخر السنة في مثل تلك الليلة المقبلة. وما من عبدٍ يُحييها, ويدعو بدعاء الخضر عليه السّلام إلاّ استُجِيب له.
فلمّا انصرف, طرقْتُه ليلاً.
فقال عليه السّلام: ما جاء بك يا كميل؟!
قلت: يا أمير المؤمنين, دعاء الخضر عليه السّلام.
فقال : اجلس يا كميل!..
إذا حفظت هذا الدعاء, فآدْعُ به كلّ ليلة جمعةٍ, أو في الشهر مرّةً, أو في السنة مرّة، أو في عمرك مرّةً, تُكْفَ, وتُنصَر, وتُرزَق, ولن تَعدِم المغفرة.
يا كُمَيل! أوجَبَ لك طولُ الصحبة لنا, أن نجود لك بما سألتَ.
اكتب!.. ».
وطفق كُمَيل يكتب, وإذا بأيدينا دعاء, ولا كالأدعية!..
إنه دعاء كُمَيل !.. وبذلك عمّ واشتُهِر!.. و تمتلئ به الكتب التي تتناول هذا الجانب من العبادة.
* المناسبة الثالثة:
في جلسةٍ حميمٍة, بين الإمام وتلميذه كُمَيل, يسأل التلميذ النجيب أستاذه العظيم:
- ما النَّفْس يا مولاي؟
والموضوع, لخطورته, أصبح أشْبهَ باللُّغز.
ويلتفت الإمام عليّ عليه السّلام و هو الذي لا يفاجئه السؤال مهما كان, وأينما كان .. من حديث أو خطابٍ, يستوضح من صاحبه كُمَيل: أيَّ نفسٍ ؟!
ويجيب كُمَيل, وقد اعتراه استغراب : وهل هي إلاّ نفسٌ واحدة يا مولاي ؟!
ويلوح طيف ابتسامةٍ نديّةٍ رقيقةٍ, على شفتَى سيد الأوصياء.
ويأخذ بالكلام:
ـ « بل هي أربعة أنفس :
الأولى: النامية, الثانية: الحيوانيّة, الثالثة: الناطقة القدسيّة, الرابعة : الكلّية الإلهية. ولكلٍ منها قوىً خمس, وخاصّتان:
أما قوى الناميةِ النباتيةِ الخمسُ, فهي: الماسكة, الجاذبة, الهاضمة, الدافعة, المربِّية.
وخاصّتاها: الزيادة والنقصان.
وانبعاثُها من الكَبِد.
أمّا قوى الحيوانية الخمس, فهي: السمع, البصر, الشمّ,, الذوق, اللمس.
وخاصّتاها: الرضى و الغضب.
وانبعاثها من القلب.
وأمّا قوى الناطقةِ القدسيةِ الخمس فهي: الفكر, الذِّكر, العلم, العمل, النّباهة.
وخاصّتاها: النزاهة والحكمة.
وليس لها انبعاث, وهي أشبه الأشياء بالنفس الملكية.
وأمّا الكلّية الإلهية فقواها الخمس هي: البقاء في الفَناء, العِزّ في الذُّلّ, الفقر في الغِنى, الصبر في البلاء, النعيم في الشقاء.
وخاصّتاها: الحلم والكرم.
ومنشأها و مبدأها من الله تعالى؛ لقوله عزّوجلّ: ونَفَخْنا فيهِ مِن رُوحِنا و مرجعها إليه؛ لقوله تعالي: يا أيّتُها النَّفْسُ المُطْمئنّةُ اَرْجِعي إلي ربِّكِ راضيةً مَرْضيّةً
والعقل وسط الكلّ, حتي لايتكلّم أحد منكم في غير العقل ».
ويَفْغُر كميل بن زيادٍ فاهُ مدهوشاً, من هذا البحر الجيّاش, الذي لايُدرَك ساحلُه, ولا يُسبَر غَورُه!
وإذ نتأمل هذا الجوابَ المترابطَ الحلقات, قليلاً, يتوضّح لنا أنّ الإمام عليه السّلام لا يخاطب صاحبه كميلاً فحسب, بل توجّه من خلاله لمخاطبة عقول جميع مَن سَبَقه, ومن أتى بعده, من فلاسفةٍ ومتكلّمين!.
وهل بعد هذه المناسبات الثلاث ـ وقد أفاض الإمام فيها بما أفاض ـ يبقى شكّ في المنزلة الرفيعة التي تبوّأها كُمَيل في نفس الإمام عليه السّلام ؟!
وهكذا كان الإمام عليّ عليه السّلام لا يَدَع مناسبةً تمرّ إلاّ وأودع فيها صدر كُمَيل علماً!.. فعندما يُؤتى في حديثٍ بينهما على ذِكْر مكارم الاخلاق, يوصي الإمامُ عليه السّلام كميلاً وصيّتَه الخالدة:
« يا كُمَيل، مُرْ أهلَك أن يروحوا في كسبِ المكارم, ويُدْلِجوا ( أي : يسيروا ليلاً ) في حاجة مَن هو نائم.
فوَ الّذي وَسِع سمعُه الأصوات, ما من أحد أودع قلباً سروراً, إلاّ وخلق اللهُ له من ذلك السرور لطفاً, فإذا نزلت به نائبة جرى إليها كالماء في انحداره, حتى يَطْردَها كما تُطرَد غرائبُ الإبل ... »
إنه الإحسان يدفع البلاء!.
ـ وكيف ذلك؟.
ـ ها قد سبقت الإجابة عن ذلك على لسنان الإمام عليّ عليه السّلام!
كما يوصي الإمامُ عليه السّلام صاحبه بألاّ يُؤخَذَ بالمظاهر, أو يأخذ بها!.
حتى العبادة.. من صلاةٍ و صيامٍ وقراءة قرآنٍ, فهي وعدمها سيّان إن لم تَصدُر عن إيمانٍ صحيحٍ سليم, يرى صاحبُه الحقَّ حقاً فيتّبعَه, والباطلَ باطلاً فيَجتنبَه!..
ويضرب الإمام عليٌّ عليه السّلام لصاحبه كُمَيل مثلاً لا يُنسى مدى الحياة:
بينما كانا معاً يتجوّلان, وإذا بصوتٍ يرتّل قول الله تعالى بخضوع و خشوعٍ, وتهجّدٍ وتعبّد:
أمّنْ هُوَ قانِتٌ آناءَ الليل ساجداً و قائماً يَحْذَرُ الآخرة, ويرجو رحمةَ ربِّه, قُلْ هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون؟!
ويعقّب الإمام بقوله: « نوم على يقينٍ، خيرٌ مِن صلاةٍ في شكّ!..
ويتابعان تَجْوالَهما.. وقد عقدت الدهشةُ لسانَ كُمَيل لِما نطق به سيّدُه من حكمٍ على هذا المتعبِّد في جوف الليل والنّاسُ نيام!
وتمضي شهور, وتدور معركة « النّهروان » بين الخوارج و إمامهم الذي خرجوا عن طاعته.. وتنتهي المعركة كما تنبّأ بنتيجتها الإمام عليه السّلام مُسْبَقاً أمام بعض أصحابه:
« واللهِ لن يُقتَل منكم عشرة, ولن يَفِلتَ منهم ( وهم ألوف ) عشرة!..
ويمضي الإمام عليّ عليه السّلام وصاحبه كُمَيل يتفقّدان جثث الصرعى وقد امتلأت بهم ساحة المعركة.. ويشير الإمام عليه السّلام إلى إحدى هذه الجثث, مُخْبِراً صاحبه كميلاً بأنها جثة صاحب ذلك الصوت الرقيق الحزين الذي كان يتلو القرآن في تلك الليلة التي كانا فيها معاً يتجوّلان.
وتعتري كميلاً قشعريرةٌ في جسده.. وبعد معركة النهروان, تدور معركة صِفِّين...
ويلازم كميلٌ مولاه, يضرب بين يديه بسيفٍ يقطر دماً!..
[/align]