أبو سيد عدنان
New member
- إنضم
- 3 نوفمبر 2008
- المشاركات
- 890
- مستوى التفاعل
- 0
- النقاط
- 0
جلس جاسم أمام جهاز التلفزيون ينتظر ابتداء البرامج في شيء من اللهفة، ولكن عندما ابتدأت البرامج، أنكر من نفسه أشياء كثيرة، فهو متجه إلى التلفزيون بسمعه وبصره ولكن فكره كان شارداً لا يريد أن يتجاوب معه كعادته من قبل، ونفسه كان يجدها قلقه تفتقد الاستقرار، وقلبه يأبى أن يخفق لكل نغمة أو يرتجف لكل أثارة، وتململ في جلسته وكأنه يريد أن يقاوم هذا النفار الذي يعانيه من نفسه.
حدث نفسه قائلاً: ( لقد كانت تلك الكلمات قصار ومع هذا فقد كدرت عليّ صفو سهرتي ... ولكن لا فأي شيء يهمني منها)
وبشكل لا اختياري أشار بيده أشارة وكأنه يبعد عنه شبحاً غير مرغوب فيه، وحاول أن يجمع شتات أفكاره من جديد، ولم تمضي فترة حتى أحس جاسم أنه لم يعد يتمكن من متابعة البرامج التي أمامه.
كانت هناك كلمات تبعث من قرارة نفسه، وتنطلق من عقله الباطن، كلمات سمعها وظنها عابرة ولكنه الآن يجد أنها قد تركت أثراً وراءه أثر، وقد علق في فكره من معانيها جذور.
كان يستمع على اللحن الذي أمامه وهناك صوت الضمير يهتف به من الأعماق قائلاً: ( أنه الضياع .. أنه الضعف، عندما يسلم الإنسان فكره وعواطفه إلى لحن يتلاعب بروحانيته وأفكاره كما يشاء، أن الكلمة ينبغي لها أن تهز الأخريين، لا أن تهز متكلمها ويركع لها ويسجد، إن الكلمة الناجحة هي التي ترتفع بصاحبها لا أن يرفع لها قائلها رجليه أو يهز لروعتها منكبيه)
وخامره السخط على هذا النداء الذي أنبعث ليشوش عليه أفكاره، أنكر على نفسه هذا الشرود، وقال في سره: ( إنها كلمات عادل التي لا تزال ترن في أذني وتلّح علي بإصرار، فمالي وعادل، ما هو إلا إنسان عابر في حياتي، ولكن هذه الألحان هي ما اعتدت عليها من طفولتي ).
وغير مكانه وكأنه يحاول بذلك أن يبدأ نشاطاً جديداً، وأقترب من التلفزيون أكثر وأكثر، وحاول أن يركز، فما راعه إلا دموعه تنهمر لأن المقطع كان حزيناً، ورفع يده ليكفكف بها قطرات الدموع على خده، وإذا به يستمع إلى نداء الضمير: يا له من ضعف، يا له من انقياد تام قبل دقائق كنت أضحك لأسباب وهمية، كان الطرب يكاد يطير بي على جناحيه، والآن ما الذي تعنيه هذه الدموع؟ لا لشيء .. لأسباب وهمية أيضاً، فهل تراني أعيش في عالم الخيال؟
وراجع نفسه من أين أنبعث هذا النداء؟ ولم تكن روحه لتطلقها من قبل، أنه صدى لكلمات عادل عندما كان يتحدث، لكنه أتراه لم يسمع حديثاً قبل هذا الحديث؟ فما الذي جعله يعيش هذه الكلمات دون غيرها؟ لأنه كان صادقاً مخلصاً هادئاً محبباً.
هاهي الأغنية تكاد تنتهي وهو منصرف إلى متابعة صراع نفسه الرهيب، إذاً فليحاول أن ينفي كلمات عادل بشكل نهائي قبل فوات الأوان، وأقترب من الجهاز أكثر في تصميم وإصرار.
وهنا شعر أن كلمة واحدة بقيت تلّح على فكره في تأكيد: حرام ... حرام، نعم إنه حرام، لقد قال عادل أنه حرام والحرام يعني العصيان، والعصيان يعني العقاب، وأي عقاب يا ترى؟
النار ... نعم إنها النار، وتمثلت النار له بلهيبها وزفيرها، وتذكر ما قاله عادل.
لقد قال: إن الإنسان يوقد لنفسه النار في حياته ( وقودها الناس والحجارة ) إذا فهو باستماعه لكل لحن يشعل له أواراً من نار في انتظار ذهابه إلى هناك، وهو لا يعلم متى يذهب، لعله بعد ساعة أو سنة أو أكثر، ولكنها النار على كل حال من الأحوال.
تذكر يوم احترق أصبعه من لهيب المدفأة، لكم آلمه ذلك مع وجود العديد من وسائل العلاج، ولكن هناك ما هي وسائل العلاج يا تُرى؟
آه .... إنها النار .... إنها النار
وأنسحب إلى غرفته في صمت، وسمع وراءه ضحكات والسخرية والاستهزاء، وردد يقول: العار ولا النار ... لكنه سمع نداء ضميره يرد عليه برفق: لكن أي عار هذا ؟ أنه الوعي الحقيقي والتأمين للمستقبل، إن العار هو أن يفرط الإنسان بنعيم دائم من أجل لذة وقتية وهمية. إن ذلك يعني الفكر المحدود والضعف أمام الشهوات، نعم أن ذلك هو العار.
هكذا قال عادل أمس وهكذا سوف يقول هو بعد اليوم.