الإمام الحسن بن عليّ (عليهما السلام)
الاسم : الإمام الحسن (ع)
اسم الأب: الإمام علي (ع)
اسم الأمّ: فاطمة الزّهراء (ع)
تاريخ الولادة: 15 رمضان السنة الثالثة للهجرة
محل الولادة: المدينة
تاريخ الاستشهاد: 28 صفر سنة 50 للهجرة
محل الاستشهاد: المدينة
محلّ الدّفن : المدينة (البقيع)
الجاهلية والإسلام
باسمه تعالى
كانت الأمور في العصر الجاهليّ تأخذ طابع الجاهلية في كلّ شيءٍ، فمن كان الأقدر على الظلم والجبروت؛ وكان أطول باعاً في المكر والخداع؛ كانت له السيطرة الكاملة، وتمتّع بالاحترام والإجلال، مخافة ظلمه وبطشه . .
وكانت قيادة مكّة والجزيرة العربيّة في العصر الجاهليّ، معقودة اللّواء لأبي سفيان وعائلته بني أميّة. فمعاوية وأخوه يزيد الأول، وأبوجهل وأبو لهب، وغيرهم من أعوانهم؛ كانوا القائمين على الأمور، في مكّة وفي غيرها من الأرض العربيّة.
وبعد أن ظهر الإسلام بنوره، وانحسرت الجاهليّة بظلماتها، انقلب كلّ شيءٍ، فتبدّلت القيم والمقامات وأضحى عاليها سافلها، فارتفع وعلا من كان متواضعاً، وانحدر وذلّ من كان متعالياً، وبتبدّل المفاهيم تبدّلت مراتب الناس، فسقط الأعيان والكبراء وطواهم النسيان، بينما ارتفع وسما كلّ ما هو إنسانيّ، وغدا موضع اعتبارٍ وتقدير، وهكذا فقد تسنّم الرسول (ص) وأهله وأصحابه الصالحون أعلى مقام . .
بعد هذا الانقلاب الكبير؛ وبعد ظفر حزب الله وأهل الإيمان، وانكسار شوكة حزب الجاهليّة والشرك؛ اضطرّ أبوسفيان ومعه بنو أميّة إلى التسليم والقبول بقيادة رسول الله (ص)، وذلك بعد فتح مكّة. لكنّ القلوب السّوداء بقيت على سوادها، كما بقيت على حالها عداوتهم الراسخة للرسول وأهل بيته والمؤمنين.
بعد الرسول . .
وبعد أن أغمض الرّسول (ص) عينيه، وارتحل عن هذا العالم، بقي أبوسفيان ومعه حزب الكفر والنّفاق على هدوئهم، فنفاقهم كان في مأمن من الافتضاح، وكان كلّ همّهم ألاّ تقع أسباب القدرة الماليّة والقدرة السياسية بين أيدي أهل البيت، وكانوا يسعون أن تبقى هذه القدرات حكراً على غيرهم، ونجح مسعاهم ذاك؛ ومن هذا القبيل استأثر معاوية بالهيمنة على دمشق وحمص وفلسطين والأردن، جمع بين يديه أسباب الثّروة والقوّة، وغدا مشهوراً في كافّة أنحاء العالم الإسلاميّ. وبعد مقتل عثمان، ومبايعة عليّ صهر الرسول وابن عمّه، وأبي الإمامين الحسنين بالخلافة، قام المنافقون وأهل الباطل، يرفعون لواء العداء وراية الخلاف من جديدٍ، وشهروا سيوفهم في وجه الإمام (ع)، في حروب الجمل وصفّين والنهروان، وكانت مناسباتٍ جمعت أعداء الإسلام وأهل الباطل، وورثة الجاهليّة، إلى جانب معاوية بن أبي سفيان.
وبين مدّ وجزر في القتال، وأخذٍ وردّ في الجدال بين عليّ (ع) ومعاوية، اجتمع نفر من الأغبياء، الذين أوهمهم غرورهم بأنّهم قادرون على علاج ما يشكو منه الناس، وإصلاح أمور المسلمين، وقرّروا أنّ علّة ما يعاني منه المسلمون تعود إلى ثلاثيّ خطر، هو معاوية وعمرو بن العاص وعليّ، وأنّه ليس من حلّ يضمن الخلاص للمسلمين سوى القضاء على ذلك الثلاثيّ دفعةً واحدةً. ونتيجةً لتفكيرهم السّقيم استشهد الإمام (ع) ذلك القائد الورع العادل، بينما فتح الطريق واسعاً أمام الآخرين . .
عهد الحسن (عليه السلام)
في ذلك العهد، حين كانت قيادة الناس وإدارة الأعمال بيد أعوان معاوية، تسلّم الإمام الحسن (ع) الخلافة، وكان عليه أن يواجه أسوأ القادة الذين كانوا قد تسلّموا مناصبهم في ذلك الحين، وجلّهم من بني أميّة، وقد كانوا من سنواتٍ طويلة في انتظار هذه المناصب. ليخضموا مال الله خضم الإبل نبتة الرّبيع..
كانت خلافة الإمام الحسن (ع) في ذاك العهد، تغطّي أقساماً واسعةً من العالم الإسلامي، تشمل فارس وخراسان، واليمن والحجاز، والكوفة والعراق. وكانت مناطق يسودها القلق والاضطراب، رغم أنّ أهلها يدينون له بالطّاعة.
أدرك الإمام منذ الأيّام الأولى لخلافته أن معاوية يضمر له السّوء ويستعدّ لحربه. فبعث بعددٍ من رسله إلى حكّام المدن والولايات، يطلب منهم الاستعداد والتأهّب للقتال، كما أرسل إلى معاوية كتاباً يلقي عليه فيه الحجّة، وينصحه ويبصّره بعواقب أعماله. ويبيّن فيه حقّه وجدارته بالخلافة. وأنّ الحرص على الإسلام ووحدة المسلمين يقتضي البعد عن الحرب والخصام، ويدعوه إلى أن يستجيب لدواعي العقل وفروض الطّاعة، وألاّ تأخذه العزّة بالإثم، فيورد نفسه موارد الهلاك، ويورد الأمّة الإسلامية موارد الفتنة والخلاف، ثمّ يتوعّده أخيراً بالقتال إن لم يستجب، حتّى يحكم الله بينهما . .
ولكن . . أين معاوية من هذه النّصائح؟ فالرجل لا يتطلّع إلاّ إلى الحكم والرّئاسة، ولا يتردّد - في سبيل الوصول إليهما - من الإقدام على أيّ عمل، مهما كان عمله باطلاً وبعيداً عن الحقّ. وبدلاً من أن يستجيب لنصائح الإمام، فقد أرسل جواسيسه - خفيةً - إلى الولاة والقادة - يمنّيهم بالأموال والعطايا، والجاه والمناصب، إن هم ابتعدوا عن الإمام ووقفوا إلى جانبه هو.
قبل الكثيرون من أعيان تلك الأيّام عروض معاوية وإغراءاته، ونقضوا عهودهم مع الإمام الشرعيّ، وانضمّ بعضهم علناً إلى معسكر معاوية، كما عرض عليه بعضهم الآخر أن يلقوا القبض على الإمام ويرسلوه إليه أسيراً لكنّ معاوية الدّاهية المخادع، طلب إليهم أن يبقوا كما هم عليه، حتى إذا اندلع القتال، انقلبوا على الإمام وخذلوه.
ومضت شهور . . اشترى معاوية خلالها بأمواله وهداياه كثيراً من زعماء القبائل، ممّن اعتاد على قبول الأموال والرّشاوي، وممّن هو على استعداد لبيع نفسه ودينه وضميره بثمنٍ بخسٍ. لقد أدرك أولئك الزّعماء أنّ طريق الإمام هو طريق أبيه أميرالمؤمنين عليهما السلام، وأنّ الطريق الآخر هو طريق المغانم والكسب الوفير، فاختاروه، وباعوا دينهم بدنياهم، وبأبخس الأثمان !!
الخيار بين الدين والدنيا
تحرّك معاوية بجيش كبيرٍ نحو الكوفة معقل الإمام (ع). وكان الإمام يسعى بدوره لدفع الكوفة إلى الجهاد، ويلقى في سعيه العناء والتعب، لأنّ القليلين كانوا على استعدادٍ لذلك، وكانوا فرقاً لكلّ منهم رأي مختلف، وإنّ جيشاً يجري تجميعه من مثل هؤلاء، لهو جيش عاجز عن خوض حربٍ جدّيّةٍ وجهاد صادقٍ.
عيّن الإمام (ع) ابن عمّه عبيد الله بن عبّاسٍ لقيادة جيشه، ونحن نعلم أنّ عبيد الله هو من قريش، يعرفه جميع قادة الجيش وزعماء القبائل ويحترمونه ويطيعون أوامره. وكان من أوائل الذين بايعوا الإمام الحسن (ع)، بالإضافة إلى أنّ قلبه كان يطفح كرهاً وعداوةً لمعاوية، الذي قتل أبناءه . .
بعث الإمام بعبيد الله على رأس جيشٍ من اثني عشر ألفاً نحو معاوية، بينما توجّه هو بجيش كبير نحو المدائن، وأقام معسكره هناك؛ كجزءٍ من خطّةٍ للتّغلّب على جيوش معاوية الجرّارة . .
لم يكن معاوية قد نسي مرارة حرب صفّين، ولا تزال ذكرى سيوف أصحاب عليّ (ع) تصيبه بالارتجاف؛ لذا فقد صمّم على أن يتوسّل الحيلة والخداع في حربه هذه؛ فأرسل موفداً إلى عبيد الله خفية يعرض عليه ألف ألف درهمٍ (مليون درهم)، إن قبل أن ينفض يديه من هذه الحرب، على أن يدفع له نصف المبلغ في معسكره إذا أتى إليه، والنصف الآخر في الكوفة.
بقي عبيد الله أيّاماً وهو حائر في أمره، فهو يعلم أنّ قلّةً من الناس قد استجابوا لدعوة الإمام، بينما يقود معاوية جيشاً لجباً، وتصوّر أنّ جيش معاوية سينتصر لا محالة، فلم التردّد؟ والعرض فيه إغراء كبير؟
صمّم عبيد الله أخيراً، واتّخذ قراراً ملؤه الخجل والعار؛ وفي منتصف تلك الليلة. انسحب مع مجموعةٍ من أعيان الجيش وقادته نحو معسكر معاوية . . لقد اختار أن يبيع الله ورسوله وإمامه ودينه بثمنٍ رخيصٍ، وأن يفوز بوصمة عارٍ لن تفارقه إلى الأبد . .
اجتمع الناس لصلاة الصّبح. وانتظروا عبيد الله كي يؤمّهم في الصلاة، حيث من المقرّر أن ينطلقوا بعد الصلاة إلى القتال. لكنّ انتظارهم ذهب عبثاً، فعبيد الله لم يحضر إلى الصلاة . . ثم عرفوا الحقيقة إذ سمعوا منادياً من معسكر أهل الشام يقول: أيّها الناس؛ تفرّقوا وعودا إلى بيوتكم، فإنّ عبيد الله وأنصاره في معسكر معاوية، وقد اختاروا الصّلح على الحرب، فلا خير في قتال الإخوة
كان عبيد الله الرجل الأوّل بعد الإمام في إمرة الجيش. وكانت خيانة هذا الرجل «الكبير» وهذا «الفقيه» المعروف، باعثاً على تخاذل الكثيرين، كما خدعٍ آخرون بدعوة السلام الكاذبة، وشرعوا يتفرّقون كلّ في اتّجاهٍ.
أحسّ جماعة من أنصار الإمام المخلصين بالخدعة، وحاولوا إعادة المتخاذلين ولمّ الصّفوف، لكنّ محاولتهم باءت بالفشل. وبقيت قلّة صادقة الإيمان ثابتةً في موقفها، وقد نذر أفرادها أنفسهم للموت في سبيل الحقّ، وأرسلوا إلى الإمام يطلبون إمدادهم بالرّجال.
كان الفارّون والمتخاذلون يتّجهون نحو المدائن، وينشرون في طريقهم أخباراً كاذبةً مفادها أنّ جيش معاوية قد انتصر على طليعة جيش الإمام، وغدت هذه الأنباء عذراً لأولئك الذين خرجوا مع الإمام، رياءً وعلى كرهٍ منهم، وحجّةً تذرّعوا بها في تخاذلهم وعودتهم إلي الكوفة. إنّ القصّة تعيد نفسها، قصّة الخوارج مع أميرالمؤمنين (ع)، قصّة أولئك الذين يخذلون إمام زمانهم، لا بل يقتلونه، فواعجباً يدّعون أنّهم حماة الإسلام والحقّ، ثمّ يفتحون الطريق واسعاً أمام أعداء الإسلام والحقّ
القصّة تعيد نفسها اليوم . . في صورة امتحانٍ كبير، يتمّ فيه الفرز جيّداً، فالمنافقون ضعاف النفوس عادوا أذلّةً إلى بيوتهم، والأصحاب الأوفياء الصادقون ثبتوا في مواقعهم آباةً أعزّة، وطريق الشهادة أمامهم واضح مستقيم لا عوج فيه.
الاسم : الإمام الحسن (ع)
اسم الأب: الإمام علي (ع)
اسم الأمّ: فاطمة الزّهراء (ع)
تاريخ الولادة: 15 رمضان السنة الثالثة للهجرة
محل الولادة: المدينة
تاريخ الاستشهاد: 28 صفر سنة 50 للهجرة
محل الاستشهاد: المدينة
محلّ الدّفن : المدينة (البقيع)
الجاهلية والإسلام
باسمه تعالى
كانت الأمور في العصر الجاهليّ تأخذ طابع الجاهلية في كلّ شيءٍ، فمن كان الأقدر على الظلم والجبروت؛ وكان أطول باعاً في المكر والخداع؛ كانت له السيطرة الكاملة، وتمتّع بالاحترام والإجلال، مخافة ظلمه وبطشه . .
وكانت قيادة مكّة والجزيرة العربيّة في العصر الجاهليّ، معقودة اللّواء لأبي سفيان وعائلته بني أميّة. فمعاوية وأخوه يزيد الأول، وأبوجهل وأبو لهب، وغيرهم من أعوانهم؛ كانوا القائمين على الأمور، في مكّة وفي غيرها من الأرض العربيّة.
وبعد أن ظهر الإسلام بنوره، وانحسرت الجاهليّة بظلماتها، انقلب كلّ شيءٍ، فتبدّلت القيم والمقامات وأضحى عاليها سافلها، فارتفع وعلا من كان متواضعاً، وانحدر وذلّ من كان متعالياً، وبتبدّل المفاهيم تبدّلت مراتب الناس، فسقط الأعيان والكبراء وطواهم النسيان، بينما ارتفع وسما كلّ ما هو إنسانيّ، وغدا موضع اعتبارٍ وتقدير، وهكذا فقد تسنّم الرسول (ص) وأهله وأصحابه الصالحون أعلى مقام . .
بعد هذا الانقلاب الكبير؛ وبعد ظفر حزب الله وأهل الإيمان، وانكسار شوكة حزب الجاهليّة والشرك؛ اضطرّ أبوسفيان ومعه بنو أميّة إلى التسليم والقبول بقيادة رسول الله (ص)، وذلك بعد فتح مكّة. لكنّ القلوب السّوداء بقيت على سوادها، كما بقيت على حالها عداوتهم الراسخة للرسول وأهل بيته والمؤمنين.
بعد الرسول . .
وبعد أن أغمض الرّسول (ص) عينيه، وارتحل عن هذا العالم، بقي أبوسفيان ومعه حزب الكفر والنّفاق على هدوئهم، فنفاقهم كان في مأمن من الافتضاح، وكان كلّ همّهم ألاّ تقع أسباب القدرة الماليّة والقدرة السياسية بين أيدي أهل البيت، وكانوا يسعون أن تبقى هذه القدرات حكراً على غيرهم، ونجح مسعاهم ذاك؛ ومن هذا القبيل استأثر معاوية بالهيمنة على دمشق وحمص وفلسطين والأردن، جمع بين يديه أسباب الثّروة والقوّة، وغدا مشهوراً في كافّة أنحاء العالم الإسلاميّ. وبعد مقتل عثمان، ومبايعة عليّ صهر الرسول وابن عمّه، وأبي الإمامين الحسنين بالخلافة، قام المنافقون وأهل الباطل، يرفعون لواء العداء وراية الخلاف من جديدٍ، وشهروا سيوفهم في وجه الإمام (ع)، في حروب الجمل وصفّين والنهروان، وكانت مناسباتٍ جمعت أعداء الإسلام وأهل الباطل، وورثة الجاهليّة، إلى جانب معاوية بن أبي سفيان.
وبين مدّ وجزر في القتال، وأخذٍ وردّ في الجدال بين عليّ (ع) ومعاوية، اجتمع نفر من الأغبياء، الذين أوهمهم غرورهم بأنّهم قادرون على علاج ما يشكو منه الناس، وإصلاح أمور المسلمين، وقرّروا أنّ علّة ما يعاني منه المسلمون تعود إلى ثلاثيّ خطر، هو معاوية وعمرو بن العاص وعليّ، وأنّه ليس من حلّ يضمن الخلاص للمسلمين سوى القضاء على ذلك الثلاثيّ دفعةً واحدةً. ونتيجةً لتفكيرهم السّقيم استشهد الإمام (ع) ذلك القائد الورع العادل، بينما فتح الطريق واسعاً أمام الآخرين . .
عهد الحسن (عليه السلام)
في ذلك العهد، حين كانت قيادة الناس وإدارة الأعمال بيد أعوان معاوية، تسلّم الإمام الحسن (ع) الخلافة، وكان عليه أن يواجه أسوأ القادة الذين كانوا قد تسلّموا مناصبهم في ذلك الحين، وجلّهم من بني أميّة، وقد كانوا من سنواتٍ طويلة في انتظار هذه المناصب. ليخضموا مال الله خضم الإبل نبتة الرّبيع..
كانت خلافة الإمام الحسن (ع) في ذاك العهد، تغطّي أقساماً واسعةً من العالم الإسلامي، تشمل فارس وخراسان، واليمن والحجاز، والكوفة والعراق. وكانت مناطق يسودها القلق والاضطراب، رغم أنّ أهلها يدينون له بالطّاعة.
أدرك الإمام منذ الأيّام الأولى لخلافته أن معاوية يضمر له السّوء ويستعدّ لحربه. فبعث بعددٍ من رسله إلى حكّام المدن والولايات، يطلب منهم الاستعداد والتأهّب للقتال، كما أرسل إلى معاوية كتاباً يلقي عليه فيه الحجّة، وينصحه ويبصّره بعواقب أعماله. ويبيّن فيه حقّه وجدارته بالخلافة. وأنّ الحرص على الإسلام ووحدة المسلمين يقتضي البعد عن الحرب والخصام، ويدعوه إلى أن يستجيب لدواعي العقل وفروض الطّاعة، وألاّ تأخذه العزّة بالإثم، فيورد نفسه موارد الهلاك، ويورد الأمّة الإسلامية موارد الفتنة والخلاف، ثمّ يتوعّده أخيراً بالقتال إن لم يستجب، حتّى يحكم الله بينهما . .
ولكن . . أين معاوية من هذه النّصائح؟ فالرجل لا يتطلّع إلاّ إلى الحكم والرّئاسة، ولا يتردّد - في سبيل الوصول إليهما - من الإقدام على أيّ عمل، مهما كان عمله باطلاً وبعيداً عن الحقّ. وبدلاً من أن يستجيب لنصائح الإمام، فقد أرسل جواسيسه - خفيةً - إلى الولاة والقادة - يمنّيهم بالأموال والعطايا، والجاه والمناصب، إن هم ابتعدوا عن الإمام ووقفوا إلى جانبه هو.
قبل الكثيرون من أعيان تلك الأيّام عروض معاوية وإغراءاته، ونقضوا عهودهم مع الإمام الشرعيّ، وانضمّ بعضهم علناً إلى معسكر معاوية، كما عرض عليه بعضهم الآخر أن يلقوا القبض على الإمام ويرسلوه إليه أسيراً لكنّ معاوية الدّاهية المخادع، طلب إليهم أن يبقوا كما هم عليه، حتى إذا اندلع القتال، انقلبوا على الإمام وخذلوه.
ومضت شهور . . اشترى معاوية خلالها بأمواله وهداياه كثيراً من زعماء القبائل، ممّن اعتاد على قبول الأموال والرّشاوي، وممّن هو على استعداد لبيع نفسه ودينه وضميره بثمنٍ بخسٍ. لقد أدرك أولئك الزّعماء أنّ طريق الإمام هو طريق أبيه أميرالمؤمنين عليهما السلام، وأنّ الطريق الآخر هو طريق المغانم والكسب الوفير، فاختاروه، وباعوا دينهم بدنياهم، وبأبخس الأثمان !!
الخيار بين الدين والدنيا
تحرّك معاوية بجيش كبيرٍ نحو الكوفة معقل الإمام (ع). وكان الإمام يسعى بدوره لدفع الكوفة إلى الجهاد، ويلقى في سعيه العناء والتعب، لأنّ القليلين كانوا على استعدادٍ لذلك، وكانوا فرقاً لكلّ منهم رأي مختلف، وإنّ جيشاً يجري تجميعه من مثل هؤلاء، لهو جيش عاجز عن خوض حربٍ جدّيّةٍ وجهاد صادقٍ.
عيّن الإمام (ع) ابن عمّه عبيد الله بن عبّاسٍ لقيادة جيشه، ونحن نعلم أنّ عبيد الله هو من قريش، يعرفه جميع قادة الجيش وزعماء القبائل ويحترمونه ويطيعون أوامره. وكان من أوائل الذين بايعوا الإمام الحسن (ع)، بالإضافة إلى أنّ قلبه كان يطفح كرهاً وعداوةً لمعاوية، الذي قتل أبناءه . .
بعث الإمام بعبيد الله على رأس جيشٍ من اثني عشر ألفاً نحو معاوية، بينما توجّه هو بجيش كبير نحو المدائن، وأقام معسكره هناك؛ كجزءٍ من خطّةٍ للتّغلّب على جيوش معاوية الجرّارة . .
لم يكن معاوية قد نسي مرارة حرب صفّين، ولا تزال ذكرى سيوف أصحاب عليّ (ع) تصيبه بالارتجاف؛ لذا فقد صمّم على أن يتوسّل الحيلة والخداع في حربه هذه؛ فأرسل موفداً إلى عبيد الله خفية يعرض عليه ألف ألف درهمٍ (مليون درهم)، إن قبل أن ينفض يديه من هذه الحرب، على أن يدفع له نصف المبلغ في معسكره إذا أتى إليه، والنصف الآخر في الكوفة.
بقي عبيد الله أيّاماً وهو حائر في أمره، فهو يعلم أنّ قلّةً من الناس قد استجابوا لدعوة الإمام، بينما يقود معاوية جيشاً لجباً، وتصوّر أنّ جيش معاوية سينتصر لا محالة، فلم التردّد؟ والعرض فيه إغراء كبير؟
صمّم عبيد الله أخيراً، واتّخذ قراراً ملؤه الخجل والعار؛ وفي منتصف تلك الليلة. انسحب مع مجموعةٍ من أعيان الجيش وقادته نحو معسكر معاوية . . لقد اختار أن يبيع الله ورسوله وإمامه ودينه بثمنٍ رخيصٍ، وأن يفوز بوصمة عارٍ لن تفارقه إلى الأبد . .
اجتمع الناس لصلاة الصّبح. وانتظروا عبيد الله كي يؤمّهم في الصلاة، حيث من المقرّر أن ينطلقوا بعد الصلاة إلى القتال. لكنّ انتظارهم ذهب عبثاً، فعبيد الله لم يحضر إلى الصلاة . . ثم عرفوا الحقيقة إذ سمعوا منادياً من معسكر أهل الشام يقول: أيّها الناس؛ تفرّقوا وعودا إلى بيوتكم، فإنّ عبيد الله وأنصاره في معسكر معاوية، وقد اختاروا الصّلح على الحرب، فلا خير في قتال الإخوة
كان عبيد الله الرجل الأوّل بعد الإمام في إمرة الجيش. وكانت خيانة هذا الرجل «الكبير» وهذا «الفقيه» المعروف، باعثاً على تخاذل الكثيرين، كما خدعٍ آخرون بدعوة السلام الكاذبة، وشرعوا يتفرّقون كلّ في اتّجاهٍ.
أحسّ جماعة من أنصار الإمام المخلصين بالخدعة، وحاولوا إعادة المتخاذلين ولمّ الصّفوف، لكنّ محاولتهم باءت بالفشل. وبقيت قلّة صادقة الإيمان ثابتةً في موقفها، وقد نذر أفرادها أنفسهم للموت في سبيل الحقّ، وأرسلوا إلى الإمام يطلبون إمدادهم بالرّجال.
كان الفارّون والمتخاذلون يتّجهون نحو المدائن، وينشرون في طريقهم أخباراً كاذبةً مفادها أنّ جيش معاوية قد انتصر على طليعة جيش الإمام، وغدت هذه الأنباء عذراً لأولئك الذين خرجوا مع الإمام، رياءً وعلى كرهٍ منهم، وحجّةً تذرّعوا بها في تخاذلهم وعودتهم إلي الكوفة. إنّ القصّة تعيد نفسها، قصّة الخوارج مع أميرالمؤمنين (ع)، قصّة أولئك الذين يخذلون إمام زمانهم، لا بل يقتلونه، فواعجباً يدّعون أنّهم حماة الإسلام والحقّ، ثمّ يفتحون الطريق واسعاً أمام أعداء الإسلام والحقّ
القصّة تعيد نفسها اليوم . . في صورة امتحانٍ كبير، يتمّ فيه الفرز جيّداً، فالمنافقون ضعاف النفوس عادوا أذلّةً إلى بيوتهم، والأصحاب الأوفياء الصادقون ثبتوا في مواقعهم آباةً أعزّة، وطريق الشهادة أمامهم واضح مستقيم لا عوج فيه.